كانون الأول\ديسمبر 2018

"أريد أن أصمم الفريم بنفسي": مقابلة مع إبتسام مراعنة

ران تال وعنات إيفن

قررنا أن نكتب في هذا العدد عن فيلم إبتسام مراعنة الأول، الفردوس المفقود (2003)، ورأينا بذلك فرصة للقائها ومحاورتها أخيرًا. وَلَدت إبتسام قبل حوالي 4 سنوات وغيرت الأمومة حياتها تمامًا. إبتسام مخرجة مسارها الشخصي والسينمائي مليء بالصراعات التي تحرص على تجسيدها في كل من أفلامها. والآن، بعد أن أصبحت أمًا لطفلة وانتقلت للعيش في يافا، تقول أن المعضلات التي تواجهها أصبحت أكثر صعوبة وتعقيدًا، ويبدو أنها تعيش الآن فترة تأمّل وتمعّن بمسيرتها السينمائية الزخمة بينما تعمل على تطوير فيلمها القادم.

كيفك إبتسام؟ يبدو أنك مررت بتغييرات كثيرة مؤخرًا.

عملت بعد ولادة ابنتي على فيلمَين كانا في مراحل الإنتاج وشعرت أني متخبطة في أسئلة معقدة لم أضطّر لمواجهتها، أو التفكير بها حتى، في السابق. أسئلة تتعلق بوجهة النظر. كانت نظرتي للعالم قبل أن ألِد، والأسئلة التي كانت تشغلني، تتعلق أساسًا بالمرأة والحرية الشخصية. لم تشغلني نظرة الأم (أو الوالدَين)، أو ما يشعران به. كنت أقل اهتمامًا بنظرة الأب إلى ابنته، لم يعنيني هذا بتاتًا. كل ما كان يعنيني هو ما تمّر به البطلة وتجاربها الشخصية. كان اهتمامي الشخصي، والسينمائي-الفني، منصّبًا على البطلة فقط، على أن أعكس وجهة نظرها هي. لكن الأمومة غيّرت وجهة نظري تمامًا; لم يعد الأمر يقتصر على الفتاة أو الابنة أو المرأة التي تمّر بسيرورة ما لتحرير نفسها; بدأت أنظر إليها من وجهة نظر والدَيها. من وجهة نظر أمها. لم أتمكن من اجتياز هذه المعضلة. "ما هي وجهة نظري؟ هل أنظر إلى الابنة وأجري معها كما فعلت من قبل؟" لم يعد بإمكاني القيام بذلك. لم يعد بإمكاني تجاهل الأم، وكيلة القمع، وللأسف الشديد غالبًا ما تكون النساء وكيلات للقمع. وجدت نفسي أيضاً أفكر بما تمّر به أم يثور ابنها أو ابنتها، أو يتمردون عليها. أصبحت أفكر بها هي. أدخلني هذا في حالة من الحيرة والتخبط.

أشعر بتعاطف وتماهٍ كبيرين مع الأمهات، أفهمهن. بدأت أفهم فجأة لماذا تقمع الأمهات بناتهن; لأنهن تردن حمايتهن. لأنهن تعِشن في مجتمع فظيع. لأن الإبنة بحاجة إلى عائلة تعود إليها في النهاية. هناك عائلة، هناك أم، وهناك ابنة، والأم لن تفكك العائلة لأنها تعلم أنها تعيش في فوضى وقمع وأنها لا تستطيع تفكيك كل شيء. أدركت هذا الجانب فجأة أيضًا.

كيف أثّر هذا عليك؟

شعرت أن شيئًا ما قد تزعزع بداخلي. عملت قبل أن ألِد على فيلم تناول مجتمع الميم الفلسطيني. عملت مع بطل من يافا لم يخرج من الخزانة أمام عائلته. رافقته وصورته على مدى أربع سنوات. كنت معه ودعمته في كل شيء. كل ما بدا لي مهمًا كان حريته، السيرورة التي كان يمّر بها. كنت أصوّره في بيته حيث كانت تكون أمه حاضرة. كانت تجلس هناك وتصلّي دون أن تعرف ما كنت أفعله هناك. كل ما كانت تعرفه هو أن ابنها فنان عظيم، لكني كنت أخفي سرًا، أنا وهو كنا شريكين للسر. لم يعرف أحد سوانا أني لم أصوره لكونه فنانًا فقط. فنه هو هويته الجنسية أيضا. لكنها لم تكن تعرف ذلك. صورت وصورت وصورت. كنا في معضلة متواصلة: "ما الذي سيحدث عندما تخرج من الخزانة في الفيلم وتكتشف أمك الأمر هكذا؟" لم أرَ أي إشكالية بذلك. ثم، وبعد أن ولدت صوفيا، وعندما كان عمرها ستة أشهر، خرجت لنزهة معها وهي في العربة واتصلت به وطلبت منه أن نلتقي لأني لم أرَ كيف كان بإمكاننا الاستمرار هكذا. قلت له عندما التقينا، "عليك أن تتحمل المسؤولية وأن تخبر أمك. لا يهمني أمر أبيك. لا يهمني الرجال. لكن من غير الممكن أن تشاهد أمك الفيلم الذي تكشف فيه عن هويتك للجميع قبل أن تخبرها أنت بذلك". أجابني: "لن أتحمل المسؤولية وستعرف كل شيء بعد مشاهدة الفيلم". أجبته أنني لن أتحمل مسؤولية ذلك.

والفيلم؟

ألغِي. اتصلت بالمؤسسة (الممولة) وقلت لهم أني لن أنتج هذا الفيلم.

لأسباب أخلاقية؟

نعم. حيث أن كل فيلم من إخراجي يخلق في نهاية المطاف نقاشًا أخلاقيًا، واسعًا ومركّبًا. لكن هذا الجانب الأخلاقي لم يكن يهمّني من قبل. لم أتخبّط بأي سؤال، كان كل شيء واضحًا. عندي بطلة (في الفيلم) وأنا معها. لكن الآن لدي بطلة، وبطلة أخرى هي نفسها تعاني من القمع ولا يمكنني تجاهل أمرها، بل حتى أنني أتماهى وأتعاطف معها أكثر مما أتعاطف مع البطلة نفسها.

يرتبط هذا لما قادك منذ البداية – أمك.

يمكنك القول اني "اغتصبت" أمي في أفلامي. "أنت أنجبتِني، فلتتحملي المسؤولية. ما أفعله هو صناعة الأفلام ولدي الكثير مما أقوله. قفي أمام الكاميرا وتدبري أمرك". تحبني أمي كثيرًا، ولذلك لم تهرب مني، بل واجهت الأمر. ما زلت أدفع ثمن دفعي لها لتكون شخصية في أفلامي. لم يكن هذا من محض إرادتها. ما الذي تعرفه عن السينما، أمي؟ أي علاقة تربطها بالأفلام التي أصنعها أنا؟ تجلس أمي طوال اليوم أمام التلفزيون وتشاهد خطبًا لشيوخ من قطر والكويت ولبنان، ومن إيران أيضًا ربما، يحدثونها عن تقديس الله; عن احترامه والتفكير بالموت. لا تشاهد أمي أفلامي على التلفزيون; لا تشاهد القنوات التي تبث أفلامي أصلًا. لا تفتخر بأفلامي، لذلك لم أسألها. لم أسألها أبدًا ما إذا كانت تريد أن تكون بطلة في فيلمي. أليس هذا سؤالًا أساسيًا يجب توجيهه لبطلة فيلمك؟ أخضعتها للكاميرا وأرغمتها على مواجهة أسئلتي. أجبرتها على مواجهة الأمر، وكلما صمتت أكثر كلما ازدادت حدة الدراما.

لمَ لم ترفض؟

لأنها تواجه الأمر مثل أي أم لابنة متمردة. أنا أفعل ما يحلو لي. أتزوج من يهودي، متمردة. لكنها تقبلت الأمر، لأني ابنتها، سواء رضيَت بما فعلته أو لم ترضَ. كل ما يهمها هو علاقتها بي، نقطة.

رحلتك الشخصية والسينمائية أكثر تعقيدًا وإلهامًا منها لدى الآخرين والأخريات في المجال. كيف شعرت أن مكانك في السينما؟

لم أشاهد السينما في طفولتي. لم أشاهد الأفلام قبل التحاقي بالدراسة. أردت أن أكون مذيعة أخبار على القناة الأولى. أردت أن يفتحوا التلفزيون ويشاهدوني أتحدث ويستمعوا إلي. لم أشاهد الأفلام في طفولتي; لا الأمريكية، ولا الفلسطينية، ولا الإسرائيلية، ولا الوثائقية بالطبع. كنا نشاهد التلفزيون على محطات كانت تبَّث بواسطة صحون الأقمار الصناعية. لكن حتى التلفزيون كان يغيب عنا عندما كان البث ينقطع في الشتاء بسبب البرق. كانت لدينا مكتبة فيديو في القرية وكان أخي مسؤولاً عن جلب الأفلام، الهندية خاصة. كنا نجلس كل العائلة مرتين في الأسبوع ونشاهد الأفلام الهندية; أفلام درامية وسخيفة. هذا كل ما شاهدته.

عندما كنت بسن الرابعة عشرة بدأت أكتب مقالات صحفية نقدية عن المجتمع العربي، خاصة البنى التحتية، مياه الصرف الصحي المتدفقة في الشوارع، القرى النائية، الملل والإهمال. اكتشفت قوتي في الكتابة. نشأت في بيت لا قراءة أو كتابة فيه. أم وأب أمّيان. كانت تصل القرية كل يوم جمعة مجلات فلسطينية مختلفة، وهكذا اكتشفت الانتفاضة الأولى. اكتشفت الطفولة والأطفال والحرب. كتابة ثورية، مقاوِمة. بدأت أقرأ.

كنت آخذ من أمي خمسة أو عشرة شيكل، وهو مبلغ كبير نسبيًا، لشراء الصحف والمجلات. كانت تعرف أنني أجلس وأقرأها. كنت  أنكّب على قراءة هذه الصحف كل يوم جمعة; كل العرب، الصنارة. كانت غرفتي مكدّسة بالصحف. بدأت أكتشف هويتي وأموضع نفسي في العالم في بيت لم تكن له وجهة سياسة محددة، لكن كانت له وجهة اجتماعية واضحة; أم نسوية، تعمل في التنظيف، أب عاطل عن العمل يعاني من مشاكل نفسية. ثم بدأت أكتب وأنشر المقالات في صحف عربية. كنت أدرس في مدرسة ثانوية في حيفا. كنت متمردة، "لساني طويل". قمت بثورات في المدرسة، كنت أنظّم الإضرابات. كنت مشاغبة كبيرة وكنت أحدِث الكثير من الفوضى.

كانت لدي انتقادات شديدة وكثيرة للمجتمع العربي. لم يعنيني المجتمع اليهودي الذي لم ألتقِ به سوى عندما كنت أرافق أمي، في سيارتها أو في الباص، لتنظيف بيوت اليهود معها ثم العودة إلى البيت.

تعلمت الكثير في ذلك الوقت; انكشفت على الكثير من القصص، والدراما، والمآسي، والإهانات. نساء تعشن حياة صعبة، تعملن مع أمي في تنظيف البيوت. قررت أن أدرس الصحافة في مدرسة "كوتيرت" في تل أبيب لكني لم أجتَز امتحانات الدخول. أحبطني هذا تمامًا. أردت أن أصبح صحفية. واصلت البحث واكتشفت مدرسة السينما في جفعات حبيبة التي ناسبتني لأني أردت مكانًا يمكنني العمل والدراسة فيه. كنت أتعلم خلال النهار وفي الساعة الرابعة بعد الظهر كنت أبدأ ورديتي في غرفة الطعام في المركز. كان العام الدراسي الأول كارثة. عشت في جفعات حبيبة. كان عمري 19 عامًا عندما تركت البيت. كنت أصغر طالبة في المدرسة والفلسطينية الأولى فيها. كنت ساذجة. أتذكر إيفون ميكلوش ومعداتها في دروس التصوير. كان الرجال منذهلين بالمعدات; الميكروفون، الكاميرا. كانت (ميكلوش) تتحدث بلهجة فنية كان يفهمها الجميع. كان الطلاب الإسرائيليون بعد الخدمة في الجيش، في السادسة والعشرين، السابعة والعشرين، الثامنة والعشرين من العمر. بالغين، وكنت أنا مجرد طفلة بينهم. لم أفهم شيئًا ولم تكن لغتي العبرية جيدة. عندما انتهى العام الدراسي الأول قلت لأمي أني لن أواصل الدراسة، أنها لا تهمني, قلت لها أني سأعمل، مثلها، في التنظيف، أو في صناعة الطعام. كان جوابها: "ولا بأي شكل من الأشكال. لن تعودي إلى البيت". لم تفهم ما كنت أفعله بالسينما. قلت لها: "سأصبح مصورة أعراس"، لكنها أجابتني "لن تتركي الدراسة. أكمليها ثم افعلي ما تريدينه. وإن كنت بحاجة إلى دعم مالي، يمكنني مساعدتك بمبلغ 500 شيكل شهريًا، وستجتازين العام القادم أيضًا".

ثم قابلت ميخا ليفني الذي غيّر حياتي. كان ميخا مخرجًا وثائقيًا علّمنا عن السينما الوثائقية. واو. نظرت إليه، كان جهمًا وكان يتصبب عرقًا طوال الوقت; كان رجلًا طيبًا، كان يصغي لي. لا أعرف لماذا، لكنه كان مهتمًا بالمجتمع العربي ورآني كما أنا. لم يراني أحد من التل-أبيبيين. لن أذكر أسماءهم لكني مازلت أتذكر كل واحد منهم. لكن ميخا ليفني رآني. تحدثت معه عن الأربعين قرية عربية غير المعترف بها. كان يعرف عما كنت أتحدث عنه وأصغى إلي وغيّر حياتي منذ تلك اللحظة. فهمت السينما الوثائقية عندما تحدث معي ميخا عنها. شعرت أني رضعتها منذ طفولتي. شعرت أنها قريبة مني وأدركت أنها كانت كل ما فتشت عنه طوال حياتي دون أعرف ما كانت تسمَّى به. صنعت فيلمي الأول عندما كنت طالبة.

ماذا كان موضوع الفيلم؟

القرى الأربعون غير المعترف بها، وهي قرى غير متصلة بالكهرباء والمياه ولا بنى تحتية فيها. لم أشارك في الحدث الاختتامي للعام الدراسي للأسف لأن أختي الكبرى، التي كانت تكبرني بعام، توفيت في الشهر نفسه. لا أعرف كيف كان العرض الأول للفيلم.

تخرجت لكن الأمر استغرقني بعض الوقت لأبدأ العمل والإنتاج. عدت للعيش مع والديّ، لأحضنهما، لنواجه الفقدان معًا. وعندما خرجت من كل هذا بدأت أدرّس السينما والتليفزيون في مدرسة القرية. لم يفهم المدير ما أريده منه. قلت له: "أعطني سنة وسترى أن سيكون هناك طلب وأننا سنفتتح تخصص سينما أيضًا". عملت لعدة سنوات في عالم التربية والتعليم، في المدرسة. كنت أستيقظ كل صباح، أذهب إلى المدرسة، أدرّس، أعود إلى البيت، أجهّز الطلاب لامتحانات البجروت. لكني شعرت بخمول ما.

وعندها سمعت عن فيلمك، طريق بن تسفي 67 (ر.ت.). كنت ما زلت أحاول استيعاب وفاة أختي، آنذاك، التي كانت مأساوية للغاية. لم تمت أختي نتيجة جريمة قتل، بل جراء إهمال طبي. لم نتحدث عن موتها في البيت. لم نقل شيئًا. لا شيء سوى الصمت. لهذا عندما سمعت أن هنالك فيلم عن معهد أبو كبير للطب الشرعي، قلت "واو". رأيت جثة أختي بعد التشريح وأردت أن أعرف أكثر عن الأمر. أردت معرفة المزيد عن المكان. أتذكر أني ذهبت إلى المكتبة في جفعات حبيبة  وأخذت شريط فيديو  للفيلم. جلست في غرفتي أمام التلفزيون وشاهدته.

أردت أن أبحث عنها. أن أشعر بشيء مما تبقّى منها، أن أشعر بشيء مما رحل معها. أتذكر أني قلت لنفسي "واو. عليّ  أن أستيقظ من هذا السبات الذي أغرقت نفسي به. أن أنفض الحِداد عني، أن أفتح صفحة جديدة. أن أعبّر عن وجهة نظري بالغة الأهمية قبل أن ينفذ الوقت".

كيف بدأت؟

عملت مع دوكي درور في اثنين من أفلامه. عملت في كل شيء: كنت مديرة إنتاج، باحثة، مساعدة مخرج. فكرت أن إن كان بإمكان دوكي درور أن يصنع أفلامًا عن العرب، بإمكاني أنا أيضًا أن أصنع أفلامًا عنهم. ليس الأمر معقدًا. لم أدرك سوى لاحقًا أن معظم الأفلام التي صنعتها كانت عبارة عن قصص انبثقت عن تجارب مررت بها في مراهقتي. كان سن 12-18 عامًا بمثابة بئر استقيت منه القصص.

مثل شو؟

"الفردوس المفقود" (2003) مستوحى من قصة سعاد (غنيم)، التي كانت بطلة طفولتي. كانت تدخل وتخرج من السجن طوال الوقت. كان الشاباك يلاحقها دائمًا، ما كان يخيف القرية بأكملها. لم أعرف ما هي قصتها بالضبط، لكني أعرف أنها كانت مليئة بالخوف والقلق والعار. النكبة، مهبل المرأة. لأنها تعرضت للاغتصاب في السجن. دفع هذا بالجميع إلى الجنون. أن هذه المرأة قد تعرضت للاغتصاب. هذا كل ما كان يهمهم، جسد المرأة – لمن ينتمي. هذا ما زعزعهم. لم يهتموا بما فعلته كناشطة سياسية. ما أخافهم هو أن تعرض سعاد للاغتصاب لكونها ناشطة سياسية يعني أن هذا ما سيحدث لبناتهم إن فتحن أفواههن. كان هذا حاضرًا دائمًا. إن لم يحرسوني ويضعوني في قفص، قد أتعرض للاغتصاب في أي لحظة. جسدي ملك للجميع. هذا ما أوصلني إلى  سعاد; الخوف والصمت وشخصية نسائية تتمركز القصة.

من أين أتت نظرتك النسوية؟

من أمي.

أمك امرأة متدينة تعيش في مجتمع محافظ.

زوجوها أبي دون أن تعرفه وسرعان ما أدركت أنه ليس على ما يرام. في السنوات القليلة الماضية فقط، بعد أن ولدت، أدركت أن أبي كان يعاني من بوست تراوما من النكبة. كان عمره 12 عامًا عندما حفر القبور في طنطورة. كان دائم الصمت. لم يكن على ما يرام. قلما كان يتحدث. كل ما كان يفعله كان التحديق والتدخين والبكاء. وأمي، أمية، لا تقرأ ولا تكتب، أنجبت طفلاً تلو الآخر ووجدت نفسها مع الكثير من الأطفال وزوج حاضر-غائب. ثم أخذت حقيبتها في يوم من الأيام وبدأت تقرع أبواب العائلات اليهودية في زخرون يعكوف وبلغة الإشارة أخبرتهم أنها تريد أن تعمل لديهم بالتنظيف. هكذا بدأت، وسرعان ما اكتشفت استقلالها المادي. منذ تلك اللحظة، لم يعد بإمكان الرجل الجالس في بيتها، الذي يصرخ أحيانًا ويسكت أحيانًا أخرى ولا يقوم بدوره كأب، أن يخبرها ما عليها فعله. هي امرأة، هي تكسب المال، تصرف عليه وعلى أطفالها، تدفعنا جميعنا للتعلم. من هنا أتت نسويتي. كان نجلس معها، أخواتي وأخي وأنا، لأداء واجباتنا المدرسية. لم تعرف القراءة ولم تستطع أن تشرح لنا فهم المقروء. لا باللغة العربية، ولا الإنجليزية. لكنها كانت تطلب منا أن نقرأ لها النص وتدير معنا الحوار عنه شفهيًا. كانت تجربة تعليمية غير عادية، كان هذا مفاجئًا. استمرت مفاجآتها عندما التحقت لاحقًا بدورة مسائية لتعلم القراءة والكتابة. كنا نحن، أطفالها، نجلس معها ونساعدها بأداء واجباتها المدرسية. أتذكر البريق في عينيها. كم كان يسعدها أن تقرأ. بدأت تترك رسائل قصيرة لمن كانت تعمل لديهم: "نهارك سعيد، ختام". كانت تحضر لنا قصاصات الورق إلى البيت بحماس. كانت هذه ثورة هائلة. كانت رائعة.

من جهة، فأنت تعيشين القمع الذكوري في مراهقتك، ومن جهة أخرى لديك في البيت أب لا يقوم بواجباته كأب لك أو كزوج لأمك.

أب لا يقوم بواجباته كأب أو كزوج كان أعظم هدية تلقيتها في حياتي. هذا ما حفّز انطلاقتي. استغرقني الأمر بعض الوقت حتى أكف عن الخجل به. طالما خجلت به. كان دائمًا يأخذ دراجته إلى الطنطورة، إلى البحر، إلى تلك القرية، إلى ما تبقى منها، ويقضي معظم أيامه هناك.

ألم يعمل؟

لم يعمل. شهر في السنة ربما، في الزراعة أو البناء. كان ذكيًا جدًا لكنه لم يكن على ما يرام. كان يعاني. وأنا لم أكلف نفسي فهم السبب وراء تصرفاته.

وعلاقته بأمك؟

كانت هناك شائعات كثيرة في القرية. كانوا يقولون له "زوجتك هي الرجل في البيت". كان عليه أن يحافظ على كرامته أمامها. لكنها لم تستسلم وكافحت كاللبؤة.

كان هذا بمثابة درس لك.

صحيح. لم تدفع أمي أي ثمن، بل حاربت النظام الأبوي. لم تكن امرأة معنَّفة. لم يرفع يده عليها يومًا. كان يصرخ عليها وكانت ترد عليه بالصراخ. لم تكن معه رخصة قيادة، هي من حصلت على رخصة واشترت سيارة على الفور. وعندما كان يزعجها أثناء القيادة، كانت تفتح الباب وتقول له: "يمكنك أن تنزل هنا الآن". تمعنت بهذه العلاقة وأدركت أن الأمر ليس مستحيلًا.

فيلمك الأول "الفردوس المفقود" يتراوح بين هذين الخطين: قصة ابتسام الشخصية وقصة سعاد السياسية.

كانت هذه فرصة لسرد قصة سعاد التي كان يجب أن تروى، وأردت أنا أن أحكيها، أن أعطيها مكانها. وفي الوقت نفسه أن أنظر حولي إلى المكان الذي أعيش فيه: البيت الذي ولدت فيه، أمي، أبي، القرية التي ولدت وعشت فيها. والتحليق من هناك. أردت الحرية مثل سعاد. تركت البيت عندما كان عمري 29 عامًا.

هل منحك الفيلم إمكانية الخروج من هناك؟

في الجملة الأخيرة من الـ voice over أقول: "أريد أن أكون امرأة حرة". كنت أعيش في البيت مع والدّي في ذلك الوقت وعرضت الـ rough cut على أمي التي غضبت عندما سمعت هذه الجملة. "لا يمكنك أن تسمي نفسك امرأة طالما أنك لست متزوجة" منذ تلك اللحظة أدركت أن رحلتي هي نحو أن أكون امرأة حرة حتى لو لم أكن متزوجة.

في أي مرحلة أدركتِ أنك تريدين رواية قصتك أنت إلى جانب قصة سعاد؟

أرادت سعاد أن تكون بطلة الفيلم، شخصيته الرئيسية. أن تشارك فيه مع عائلتها لكن بدون عائلتي التي لا اعتبار لها في القرية. لم يكن من السهل عليها أن تظهر في الفيلم إلى جانبي، شابة لا وعي سياسي لها، من عائلة متوسطة؛ إبانها هي، متعلمة، دوكتور في القانون، تعيش في إنجلترا. لكني أصرَّيت على الأمر. أدركت أن لن يكون بإمكاني أن أؤسس الفيلم عليها فقط وأني سأكون بحاجة إلى دعم جانبي ما، ألا أعتمد على بطلتي فقط. قررت أن أبني الفيلم على عمودَي أساس وأن يكون أحدهما أنا، المخرجة.

طالما كنت محاربة على عدة جبهات: صوتك السينمائي، الصوت الفلسطيني وصوتك كامرأة.

لم أكن واعية للأمر في البداية، ولم يهمني ما كانوا يقولونه عني. فيلمي الأول، الذي صدر عام 2003، كان أول فيلم فلسطيني تقوم فيه امرأة بإدخال كاميرا إلى منزلها. كان هذا في غاية الغرابة، بنظر الجمهور الفلسطيني أيضًا. ما هذا؟ ما الذي يحدث هنا؟!

هل عرضت الفيلم في الفريديس؟

لم أعرضه في الفريديس، لكنه عرِض على القناة الثامنة عندما كان هناك الكثيرين في القرية ممن  كانوا يشاهدون قنوات الكوابل.

كيف تقبَّلت عائلتك الأمر؟

أبي كان في غاية الرقة واللطافة وأسعده الفيلم. أسعده أن شخصًا ما انتبه إليه ورآه أخيرًا. رأى أبي بالفيلم أعظم هدية حب بإمكان إبنة أن تقدمها لأبيها. كان يجلس في مقهى في القرية وكان يتوجه إليه أشخاص مختلفون ويسلمون عليه، نساء يهوديات من زيخرون (يعكوف) والمنطقة. كانوا يأتون لشراء الحمص ويرونه في الشارع ويعانقوه على الفور. أحّب أبي معانقة النساء وأسعده هذا كثيرًا. لا أحد رأى أبي أو انتبه إليه حتى بلغ الستين. وفجأة، بعد هذا الفيلم، بدأ الناس يلاحظونه ويعرفونه. له اسم ووجه ويتلقى الحب والعناق. لم يحدث هذا من قبل.

تدور أحداث فيلمك الثاني في جسر الزرقا (الجسر، 2005). ما الذي جذبك إلى هناك؟

هناك أوجه تشابه كثيرة بين القريتين، الجسر والفريديس، وسكانهما: رجال عاطلون عن العمل يجلسون في البيت بخنوع واستسلام ونساء تذهبن لتنظيف البيوت ثم تعدن إلى البيت وتعطينَ الرجل نصف الراتب.

اهتممت بالنساء هنا أيضًا. [الجسر] مكان مذهل وجميل يقع بين قيسارية والبحر وطريق حيفا تل أبيب. نساء سمراوات. تماهيت مع لون بشرتهن، وهو بمثابة عار ودليل على مكانة متدنّية. لا أحد يتزوج منهن. تتزوجن داخل الأسرة، مع أبناء أعمامهن، ما يؤدي إلى مشاكل طبية كثيرة أيضًا.

بعض أفلامك تحتوي على مقاطع من حياتك الشخصية، وفي بعضها تأخذين خطوة نحو الوراء.

لجميعها علاقة مباشرة بي، بكينونتي وتجربتي الحياتية.

أكيد. لكن ما الذي يؤدي بك إلى اتخاذ القرار بهذا الشأن؟

ثمة أفلام لا أخشى أن أخرج فيها إلى رحلة شخصية وأن أسرد فيها قصتي، وثمة أخرى يخيفني جدًا القيام برحلة كهذه فيها، فأبحث عن شخصيات تخرج إليها نيابة عني. في "جسر" ثلاث بطلات عزباوات. قضية العزوبية واضحة جدًا في الفيلم. لم يكن بإمكاني تناول الأمر من قبل. لم أرغب بالتعبير عن مشاعري المتضاربة تجاه عزوبيتي: هل هي شيء يخضعني إليه أم هل هي شيء أعتنقه وأحتويه؟ لهذا تعلقت بالشخصيات الأخرى، بالنساء اللاتي تقلن: "لا بأس، العزوبية مش عيب. يمكنك أن تعيشي عزباء. ليس من الضروري أن تكوني متزوجة".

قمت بتصوير أفلام قوية جدًا تتحدث عن حاجة المرأة بالتحرر، حتى أصبح الموضوع ماهية وأساس عملك السينمائي.

أعتقد أني بدأت أفكر بالموضوع في مرحلة ما أثناء العمل على 77 خطوة، الذي لم يتناول قصتي الشخصية مع شريك يهودي كندي في فلورنتين فحسب، بل كان أساسًا أوليًا لتصميم لغتي السينمائية الشخصية. بدأت أفهم فجأة أن أفلامي تتناول الهوية بسبب التعقيدات التي تنطوي عليها كينونتي الفلسطينية. أدركت أني أتحرك طوال الوقت على خط تماس جغرافي: القرية، المدينة، تل أبيب. ما هي الهوية الإسرائيلية؟ الانتماء، الوطن، القومية؟

وفي 77 درجة أردت أن أرتاح قليلاً. أن آخذ استراحة من صناعة أفلام تتناول الصراعات والنضالات والنزاعات. أردت أن أرتاح سينمائيًا وجماليًا أيضًا. على عكس طالق بالثلاث حيث لم أهدأ للحظة وكنت أجري إلى كل مكان كالمجنونة مع الكاميرا والميكروفون; أو فيلم ليدي كل العرب (2008) مع فتاة درزية تبلغ من العمر 16 عامًا مهددة بالقتل، دراما مش طبيعية، دون وقت أو تفرّغ لتصميم الفريم الذي أخذ يصمم نفسه بنفسه. طوال حياتي وأنا متأثرة بالواقع. بدأت أدرك أنني أريد التوقف للحظة وتصميم الفريم بنفسي، بهدوء، وليس من باب صراع البقاء والدراما. عندي وجهة نظر وأريد الحرية والتفرّغ لأن أجلس، أن أجهّز الكاميرا والفريم، وسرد القصة بهدوء، دون أن أشعر أني في سباق أو نزاع ما.

أي مرحلة كانت الأصعب؟

أمنيتي، حلمي، كان أن أنتقل للعيش في تل أبيب. ثم، وعندما وصلت إليها كنت بأزمة جنونية. أتذكر أول نوبة هلع أصابتني عندما غادرت بيت والدَي. أصبحت العنصرية واضحة للغاية فجأة; أبحث عن شقة لكن دون جدوى لمجرد كوني عربية. كان الأمر صادمًا للغاية. كان اسمي، العربي، يحسم الأمر. ذهبت في النهاية للعيش في مقطورة في رشبون. استغرقني الأمر طويلاً حتى انتقلت إلى فلورنتين. لم يكن مفهومًا ضمنًا أن أمشي في الشارع وأتحدث بالعربية. امرأة عربية انتقلت إلى الحي. بدأت أشعر بالتحرر من "كفالة" المجتمع اليهودي الذي أخذني تحت عاتقه دون أن أطلب; يرون مخرجة عربية ويريدون وضعها تحت كفالتهم على الفور، هي وأعمالها وهويتها. أردت أن أتحرر من هذا أيضًا. شعرت عندها أن ما يثير اهتمامي الآن هو سينما موجّهة للمجتمع العربي.

هل كنت ستغيرين الأفلام التي سبق وصنعتها؟

لو كنت سأصنعها اليوم لكانت موجهة للمجتمع العربي ولكانت مختلفة تمامًا.

المواضيع نفسها لكن موجهة لجمهور هدف آخر؟

نعم. البطلات أنفسهن، لكن الأفلام كانت ستكون مختلفة تمامًا.

خذي "بدل" (2006) على سبيل المثال. ما الذي كنت ستغيرينه فيه؟

لم أكن سأشرح الثقافة العربية طوال الوقت; لا للجمهور ولا للمؤسسات الممولة. [عند تجنيد الأموال الفيلم] لا يشغلك سوى أن تشرحي للأشخاص هناك، الذي يجلسون ويستمعون حتى يتخذوا القرار فيما إذا كانوا سيمولون فيلمك، ما إذا كان الفيلم سينجح أم لا. لأنهم لا يفهمون الثقافة التي تتحدثين عنها. لا فكرة لديهم عن أي مما تخبرينهم به. الأفلام مكوّنة من طبقات عديدة ولو كانت موجهة للجمهور العربي لكنت سأخرِج أشياء كثيرة منها. صناعتي للسينما الموجهة للجمهور الإسرائيلي ليست أقل أهمية. السينما الفلسطينية ليست مرجعًا، لأنها غنية جدًا وتنتج في إطارها أعمال كثيرة. لكنها سينما ذكورية بالأساس. ليس هناك الكثير من الإلهام فيها.

كان لهذا تأثير على لغتك السينمائية.

طبعًا. أحب الأفلام التي تحتوي على السرد لكني غالبًا ما كنت أقوم به من منطلق الحاجة للشرح. كان الأمر في غاية الصعوبة في سجل، أنا عربي (2014) على سبيل المثال، لأن المشاهد الإسرائيلي لا يعرف مدى التعقيد والهالة التي تحيط بدرويش ومكانته في العالم العربي، أو أعماله وهويته. استغرق إنتاج هذا الفيلم دون سرد الكثير من الوقت والموارد حتى يكون مفهومًا وواضحًا للمشاهد اليهودي أيضًا.

هل تشعرين أنك نجحت بالوصول إلى الجمهور الفلسطيني والعربي في الشرق الأوسط؟

الجمهور الفلسطيني والعربي عامة متأخر عن بقية العالم ثقافيًا. سجل، أنا عربي كان أول فيلم كتبوا  عنه في العالم العربي لأنه تناول شخصية محمود درويش. معظم النقاد لم يكلفوا أنفسهم عناء مشاهدة الفيلم حتى واعتمدوا على مقالات أخرى كتِبَت عنه. أرادوا تجنب مواجهة محتوى الفيلم; تفكيك شخصية الشاعر الوطني الذي كان يتحدث العبرية وكتب قصيدة عن حبيبته اليهودية.

ما هي الردود التي تلقيتها عند صدور الفيلم؟

صدر الفيلم عام 2014، وحصل على ردود فعل سلبية للغاية في العالم العربي. راسلتني العام الماضي محاضِرة مصرية من الجامعة الأمريكية في القاهرة وطلبت مني أن أرسل لها الفيلم. شاهدته وقالت لي أنه من أفضل الأفلام التي شاهدتها عن الشِعر في العالم العربي وأنها تريد عرضه في ميدان التحرير في إطار نشاط كانت تحضّر له. قلت لها أن لا مانع لدي لكني لا أعتقد أن الأمر سينجح. قالت لي أن كل شيء سيكون على ما يرام وأجبتها "تذكري أن إسرائيل تظهر في عنوان الفيلم". وبالفعل، لم تنجح بعرض الفيلم الذي يتحدث عن الشاعر الفلسطيني الوطني الذي كان يتحدث العبرية أيضًا.

يرتبط هذا بك أنت أيضًًا، بتنقلك بين العبرية والعربية.

جزء من الانتقادات كانت نابعة من هويتي وخلفيتي: بنت قرية، مسلمة، من عائلة متوسطة الحال. "مين أنا عشان أعمل فيلم عن البطل القومي؟". فيلم كهذا على من يصنعه أن يكون مخرجًا "نصراويًا"، إبن المدينة، إبن عيلة. لو كان الفيلم من صنع مخرج كهذا لكانت الردود مختلفة تمامًا. لكني لست سوى مخرجة من قرية الفريديس، هذا بالإضافة إلى اسم عائلتي اليهودي "منوحين" الذي أصبح جزًءا من اسمي أيضًا.

ألم تتعبي؟ كل خطوة تخطينها في حياتك تنطوي على الكثير من الصراعات.

ما يتعبني هو العنصرية الإسرائيلية والسياسة الفلسطينية والتصنيفات التمييزية التي تنبع من كليهما. لم أخرِج أي فيلم منذ أنجبت صوفيا. لست أقل تعبًا من السابق لكني أكثر إحباطًا بكثير. هي الصراعات نفسها في الساحات نفسها. لكني شعرت بقوة هائلة عندما كانت الكاميرا بيدي بينما أشعر الآن أن هذه القوة قد سُلبت مني لأني ما زلت غارقة في الصراع، في المعركة نفسها، لكني لا أصنع الأفلام.

عوقِبت على تجرؤك لإخراج فيلم عن درويش؟ لأنك تلقيت الكثير من المديح قبل ذلك على كل ما فعلته.

أعتقد أن إخراجي لفيلم عن بطل قومي كان بمثابة تصريح: "لست أقل منكم". كان عليّ أن أخرج في رحلة مدتها 15 عامًا من صناعة الأفلام لأقول أني لست أقل شأنًا. كل بطلاتي السابقات كنّ بطلات هامشيات صغيرات. هنا كان علي أن أعلن: لست صغيرة ولست أقل شأنًا. أنا سينمائية، أنا مخرِجة.

كيف ولدت فكرة "سجل أنا عربي

لم أكن مهتمة بدرويش في البداية. لم أكن أحبه قبل ذلك، وقعت بحبه أثناء العمل.

لمَ بدأت العمل على الفيلم إذًا؟

أردت شرعنة علاقتي الزوجية. عرضت 77 درجة في قرية عرعرة في المثلث لأعضاء طواقم تربوية. عرِض الفيلم في قاعة كبيرة بحضور حوالي مائة شخص. بعد ربع ساعة من بداية الفيلم حدثت ضجة هائلة. فوضى عارمة. لم يسبق أن حدث لي ذلك. أوقفوا الفيلم بعد 15 دقيقة وبدأوا جميعهم، نساء ورجال، بالصراخ. بدأوا يشيرون إلي وأنا جالسة وسط الحشد; "هياها! هياها قاعدة هون". قلت لهم، وأنا أرجف من الداخل، "تعالوا نحكي على الأقل"، دعوتهم لطرح الأسئلة علي. لكن النساء، وكيلات القمع دائمًا، صرخن بي أنهن "لن تسمحن لبناتهن بالزواج بيهود". قلت لهن ما المشكلة؟ هل تعرفون قصيدة محمود درويش "ريتا والبندقية"؟ هل تعرفون أنه كتبها عن حبيبته اليهودية؟" بدأوا ينظرون أحدهم إلى الآخر وصاحوا بي "مفكرة حالك محمود درويش؟" منذ اللحظة التي قالوا لي هذه الجملة، "مفكرة حالك محمود درويش"، دخلت في حالة اكتئاب استمرت لمدة شهر ونصف. أردت أن أغادر البلاد، أن أموت. كنت بأزمة كبيرة جداً. وبعد شهر ونصف نهضت وبدأت أبحث عن ريتا، وهكذا بدأت بالعمل على الفيلم.

من المثير للاهتمام أن ريتا كانت نقطة البداية لبحثك عن درويش.

ريتا، نعم. وليس محمود درويش. بحثت عنها، عن ريتا، لأني أردت أن أتعافى من الهجوم الفظيع الذي تعرضت له في عرعرة.

وما الذي كنت تعرفينه عن ريتا؟

لم أعرف عنها الكثير. ما كنت أعرفه هو أنها يهودية. لا أحد سوى الدوائر النخبوية الفلسطينية والإسرائيلية، التي كانت مقربة من درويش، كانت تعرف بالأمر. الشعب البسيط من الفلاحين والعمال كانوا على يقين أن ريتا كانت استعارة للأرض.

كيف وجدتها؟

قرأت كل كتب محمود درويش وكل ما كتِب عنه. تلقيت يومًا بينما كنت جالسة في مكتبي إيميل من شخص من طبعون أراد شراء أفلامي وسألني عن مشروعي الحالي. أخبرته أني كنت أبحث عن موضوع مشروعي القادم. أخبرني أنه شاهد فيلم 77 درجة وأنه أحبه كثيرًا لأنه ذكّره بقصة حب عاشها يومًا; أن كانت لديه حبيبة تركته من أجل رجل آخر هو شخصية معروفة جداً لدى الجمهور العربي. قلت له "معقول تكون ريتا؟ حبيبة درويش؟"، وأجابني "نعم لكن اسمها ليس ريتا بل تمار بن عامي وهي تعيش في برلين اليوم" وأعطاني رقمها. أصابتني نوبة قلق فظيعة في تلك اللحظة. لم أعرف كيف أتصرف. خرجت مع الكلبة وأحَطتُ بيتي عشر مرات ثم اتصلت بها. تركت لها رسالة، وفي غضون خمس دقائق عادت إليّ. منذ تلك اللحظة بدأ الفيلم، لكنه بدأ عن تمار بن عامي، ريتا. لم أكن مهتمة بدرويش في تلك اللحظة.

يا لها من قصة.

أردت أن أخبر المجتمع العربي بأكمله بأني اكتشفت ريتا وأني أريد أن أعرّفه عليها. أحَّب درويش فتاة يهودية ولا بأس في ذلك. لكن إن كان هذا مسموحًا لدرويش فهو مسموح لي أنا أيضًا.

ماذا بعد؟

سأستمر بصناعة السينما الوثائقية، لكن بشكل مختلف عن ذي قبل. أعتقد أن ما زالت هناك جولة أخرى علّي خوضها مع عائلتي. أخاف من اليوم الذي ستموت فيه أمي وتتركني بلا أحد أتقاتل معه طوال اليوم. أعمل على كتابة سيناريو سردي أيضًا الآن. تعبت من ملاحقة البطلات والأبطال ومن الأذون بالتصوير. أريد أن أصمم الفريم بنفسي.

إلى أين وصلت في الكتابة؟

كتبت ثلاثة أسطر. هي بداية ككل البدايات.